27‏/1‏/2018

سفر عبر كوة الألم / الأديب حمادي التوبي

..سفر عبر كوة الألم... 
 في  غربتي ..كنت  من  كتاب  الرأي..ونشرت كثيرا  في  مواضيع  عدة..الا أن  كثيرا  من الزملاء..أخبروني عن براعة موهبتي في نقل معاناة طفولتي ومسراتها..أعرف أن جل الناس عانوا في هذه الحياة..لكن  ما  يحفزني على نقل حياة أهل قريتي..هو صدق  الأمانة في  الوصف والتصوير.. في فترة الستينات من القرن الماضي في تلك الفترة التي أتذكر مرارتها وايامها الصعبةوافتخر، لان الله جعلها لي تجربة مهمة. قاسيت ما قاسيت ..وعانيت ما عانيت..وها أنذا افتخربتلك الأيام.. بالقمل والجوع والامراض..وبكل ما عانيت..كانت دروسا صعبة. دروس الكدح والكفاح..الحياة في البادية وقتذاك ..كانت قاسية..لا مجال لمقارنتها بحياة هذه الايام. ولدت أواسط الخمسينات..في أوج عصر الجوع والقمل... تبنتني عمتي العاقر قبل ان اكمل سنتي الأولى من عمري..جعلني زوجها اميرا غير متوج..تعلق بي المسكين ايما تعلق..فكان لا يدخر جهدا في تحقيق كل رغباتي. كنت وحيد تلك الاسرة العاقر..مرت أربع سنوات وانا امير عندهم..كانت 
لهم خلافات لم أهتم لها، إلا أنها تطورت..وافترقوا..أرجعتني عمتي عند أهلي في البادية..وبدأت المأساة..البادية في بداية الستينات..معاناتها مع الكوارث لا تعد ولا تحصى..كانت الكوارث والجوائح تضرب قرى المغرب العميق بين الفينة والاخرى..الجفاف الجوع ..القمل ..الجراد
..الفئران..الحرائق ..الفياضانات..امراض وبائية كثيرة..كوليرا مالاريا.=السالمى وكردى=..انفلوانزا....لم تمهلني الامراض إبان عودتي عندهم..أصبت بالجدري وبو حمرون..لا تدخل طبي ولا دواء..بقيت طريح الفراش لقرابة السنة..طبيبي الوحيد هو أمي..حين تشتد على الحمي ويبدأ الهذيان
تضع أمي يدها الباردة على جبيني...كل الأشياء باردة الا جسمي..اشتعلت كل اعضائي..أصبحت فرنا.. لحمي يغلي..إنها الحمى اللئيمة تذهب وتعود..وفي كل عودة..أنادي امي...أستغيث بها ..تتلو سورا قرآنية مختارة لهذا الغرض..وقد تتلو كل قصار السو
وان اقتضى الحال..تعيد تلاوتها الى أن أستفيق من الغيبوبة والهذيان..احس بيدها الرحيمة باردة على جبهتي..واسمع ترانيم امي مثل هذياني..كانت المسكينة تتألم لألمي..كنت أعاني 
وكانت هي تعاني أكثر.. اعرف أنها لا تريد فقداني مرة ثانية ..بعدما فقدتني في المرة الأولى..أجبرها أبي ..ان تتبناني عمتي. رغم أنفها...وتوالت الايام على هذا الحال...أغيب وأستفيق ..أتصارع مع الحمى..نار في العظام والجلد..مخ دماغي يغلي..تذهب بي كوابيس الهذيان الى مشارف الموت 
وأعود...تأتي فترات استراحة ..احس برحمة كبيرة بين الفينة والاخري.. تستأنف الحمى غاراتها 
المريرة.. ويبدأ الهذيان..أسافر في غيبوبة ..وأركب الكوابيس..يستمر السفر..لا أحس بطول الطريق..يؤنسني الهذيان..تمررني حمم البراكين ولهب النار الزرقاء الى زمهرير الصقيع وهبوب القر والنو..تتقاذفني أمواج العاصفة..تتجمد اعضائي .. يتشنج لساني وتتوقف حركاته.. يقترب نفسي من الاختناق ..احاول عبور الكوة..كوة الألم..يستمر الصراع ..ءضع رجلي في الجهة الأخرى..حافة الجرف....تضيق الكوة وتتسع..يتمدد جسدي ويتقلص..أحاول العبور..يرفض المعبر استقبالي..تتبلد الاحساس..يصبح الالم لا يعنيني....تتأمل امي في هذا الجسد النحيف..كيف واجه كل هذه الحمى الجبارة..يضع الله القوة في أضعف خلقه..ومع هذياني تطمئن امي على بقائي..تحثني على التشبث بالبقاء..نصف مدة مرضي..اقضي حاجتي في الفراش..اتبول..ولا اتذكر اني فعلت غير ذلك ..امي موجودة لا اهتم امي تتدبر امري..وتوالت الايام.. ثم جاء العفو و استفقت.. احس ان دماميل الجذري تنهش لحمي..أظافري المتسخة تسلخ جلدي ولا تبالي..وبعد معاناة طويلة استفقت.. استفقت ..انهزم الجدري وبوحمرون ..أعشاب وأدوية امي استطاعت هزمهم..استغفارها وأدعيتها اعطت اكلها.. في تلك السنوات المريرة..كانت الحياة في البادية حجيما لايطاق..اذا اصبت بمرض.. تلجأ الى الفراش الي ان تصحو او تموت..لا طبيب ولا دواء..الا تدخل الام ببعض الاعشاب التي تخفف من الاوجاع والحمى..كانت كثيرا من البيوت تأوي مريضا او مريضين يصارعان المرض دون دواء..الا بكثير من الاعشاب ..والعسل والسمن..قد ترفض شهيتي الاكل اياما ..فتعرض علي امي العسل والسمن و تستيقض شهيتي..بالكاد اتناول شيئا.. كلما شعرت بتحسن.احاول النهوض..اتلمس رجلاي ..احركهما على مهلا..ثم اتراجع..هكذا هو حال انسان تلك الايام.. اما الاشغال فانك تعمل وانت جائع..وكأن الناس لا تأكل او تتناول طعاما..فراغ البطن لا يقوى على حمل الجسد
..اقف وراء الاغنام ايام الصقيع ..تحت الامطار الباردة بثيابي الرثة..أحس بقطرات المطر تنزلق من اللحم وتصل العظام مباشرة..أهرب الى المدرسة لعلها تكون رحيمة..أجد مدرسين اشد قسوة من بيئتي القاسية..انا قطة مشردة يطاردها اطفال مشاكسون..من ركن الى خرابة..ومن درب الى زنقة..تحاصرني المرارة و المعانات.. اواجه معاناتي وحدي لا مفر..فانا الضحية حينئذ..لاحامي ولارحيم..امنيتي ان اكبر..لا غير.. سوى ان اكبر.. لا مهندس ولا طيار
.. أمي التي تقف معي..تحدثني ..تؤكد لي ان الحياة جميلة.. واني ساعيش.. كل الناس يمرضون..وبعد ذلك وقفوا اصحاء...تعطيني املا كبيرا في الحياة ..هذه الام التي اتعبها الكد و الشقاء.. لا تتعب من رعايتي....ليس الامر بيدي..كنت صغيرا..لست حرا..لا استطيع مواجهة هذه القساوة لوحدي..كل امنيتي ان اشبع خبزا ولو حافيا..و..ان اكبر..يصبح امري بيدي..اتخلص من شرنقة الظلم والوصاية..واشبع خبزا...سأتابع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

''الأسئلة'' قصة قصيرة/العملاق ''محمد الطايع''

..الأسئلة  ..قصة قصيرة ماذا؟ ماذا قلت؟ تحبينني؟ هل قلت أنك تحبينني؟ هل قلت ذلك فعلا؟ هل أبدو لك مغفلا؟ لماذا تعتقدين أنني كذلك؟...